مركز عصام فارس للشؤون اللبنانيّة
PrintEmail This Page
السياسة الأميركيّة تجاه لبنان والشرق الأوسط بعد بوش
02 أيار 2008
نظّم مركز عصام فارس للشؤون اللبنانيّة لقاءً حول السياسة الأميركيّة تجاه لبنان والشرق الأوسط بعد بوش، مع الخبير الأميركيّ بشؤون الشرق الأوسط ريتشارد ستراوس، ناشر تقرير الـ"ميدل إيست بوليسي سيرفي" الشهريّ المتخصّص بالسياسة الأميركيّة تجاه الشرق الأوسط.
حضر اللقاء أمين عامّ وزارة الخارجيّة بسّام نعماني والسفراء جورج سيام ورياض طبّارة ولطيف أبو الحسن وجهاد مرتضى وعدد من الإعلاميّين والشخصيّات المعنيّة بعلاقات لبنان الخارجيّة.

استهلّ ستراوس حديثه بتصوّر للأشهر الأخيرة من ولاية الرئيس بوش، فاعتبر أنّ الأخير ليس الوريث السياسيّ لوالده بل للرئيس رونالد ريغان، الذي تميّز عهده بسياسة "الأسود والأبيض"، أي "إمّا أن تكون معنا أو ضدّنا"، وباستعماله عبارة "امبراطوريّة الشرّ"، مقابل عبارة "محور الشرّ" التي يستعملها الرئيس بوش اليوم. كما اعتبر أنّ الرئيس الأميركيّ جورج بوش يعبّر بشفافيّة عن أفكاره وهو مؤمنٌ حقيقةً بها، إلا أنّ الإدارة الأميركيّة تعاني صعوبةً في ترجمة هذه الأفكار عمليًّا بشكل يتناسب والمواقف التي يطلقها القيّمون على سياستها الخارجيّة.

وهنا أشار ستراوس إلى الرمزيّة المفرطة في إرسال المدمّرة "يو.أس.أس. كول" إلى السواحل اللبنانيّة، لترسو على بُعد ستّين ميلاً من الشواطئ، أي خارج مدى النيران المعادية، وذلك بناءً على نظريّة تعتبر أنّ سوريا لا تفهم إلا لغة القوّة.
وعزا ستراوس الكثير من مظاهر السياسة الحاليّة لإدارة الرئيس بوش إلى تأثير أحداث الحادي عشر من أيلول على نظرة المسؤولين الأميركيّين تجاه القوى السياسيّة في العالم، فحوّلتهم إلى فئتين: "خيّرين"، أي الذين يؤمنون بالديمقراطيّة ويعبّرون عن أفكار قريبة من الفكر الأميركيّ، و"أشرار" يجب وضع حدّ لهم. كما وأكّد أنّ هذه الأحداث دفعت قدمًا، وإلى حدّ كبير مقارنةً بالسابق، مساعي نشر الديمقراطيّة.
 
وتترجم ذلك بالدعم القويّ للـ’حركات التغييريّة‘ في العالم، كالثورة البرتقاليّة في أوكرانيا وثورة الأرز في لبنان وتغيير النظام في العراق، وبالدعم المادّيّ الكبير للمنظمات الأميركيّة المتخصّصة بنشر الديمقراطيّة. ولكنّه لاحظ وجود حالة من "التعب" تصيب المسؤولين في الإدارة بتعاطيهم مع ملفّ الديمقراطيّة في العالم، وبقدرتهم على الترويج لسياسات أظهرت فشلها في العراق.

أمّا بالنسبة للزيارة التي سيقوم بها الرئيس بوش إلى المنطقة، فكشف ستراوس أنّها تأتي للمشاركة في احتفالات العيد الستين لقيام دولة إسرائيل وقد تشمل جولته زيارةً جديدة للمملكة العربيّة السعوديّة وبعض الدول العربيّة الأخرى باستثناء الضفة الغربيّة. وشكّك بأن يحمل أيّ جديد إلى مسار السلام الفلسطيني - الإسرائيلي.

وانتقل سترواس إلى تحليله لما سيكون عليه الوضع مع الإدارة الجديدة التي ستحلّ في واشنطن ابتداءً من كانون الثاني 2009، توقّف عند مواصفات المرشحين الثلاث الأبرز للانتخابات الرئاسيّة: الجمهوريّ جون ماكّين والديمقراطيّان هيلاري كلينتون وباراك أوباما. فاعتبرهم من أفضل ما أنتجته الطبقة السياسيّة الأميركيّة، خاصّةً لكون مرشّحا الحزب الديمقراطيّ هما "أسوَد وامرأة". وقال أنّ ماكّين جدّيّ في طروحاته وهو يعبّر عن تطلعات الجمهوريّين وربّما يكون محاطًا ببعض المساعدين من المحافظين الجدد، أمّا كلينتون فسيكون لها، إذا انتُخِبَت، مساهمة تغييريّة متواضعة في السياسة الحاليّة وهي تتسلّح بخبرة كبيرة وبفريق عمل واقعيّ جدًّا. وإذ رجّح انتخاب أوباما رئيسًا، اعتبر أنّه من الفئة الشابّة والمختلفة والقادرة على إحداث تغيير أوسع. لكنّه أشار إلى أنّ أيّ رئيس جديد للولايات المتّحدة لن يكون بعيدًا كثيرًا عن السياسة الحاليّة ولن تمرّ ستّة أشهر على انتخابه إلا وسيشكّل خيبة أمل كبرى للذين يتوقّعون تغييرًا جذريًّا في السياسة الأميركيّة. فالولايات المتّحدة، حسب ستراوس، مختلفة عن غيرها من البلدان، ولها واقعها الداخليّ الذي قد يبدو غير مفهوم أحيانًا للكثير من الناس. وإذا صحّ أنّ أوروبا اليوم لا تشبه أوروبا قبل مئة عام، فالعكس تمامًا ينطبق على الولايات المتّحدة.
أمّا فيما يخصّ تموضع الأولويّات السياسيّة على الأجندة الأميركيّة، فالعراق، بالنسبة لستراوس، سيبقى يحتلّ المكانة الأولى والثانية والثالثة، وحتّى إيران التي كان يمكن اعتبارها أولويّةً رابعة، فالمحادثات معها باتت متّصلة بالمسألة العراقيّة الكبرى. وبالرغم من أهمّيّة الملفّ النوويّ الإيرانيّ، فهو يقع ضمن هذه الدائرة أيضًا.

في هذا الإطار، أشار ستراوس إلى أنّ الأميركيّين يحمّلون إيران مسؤوليّة إخفاق حكومة المالكي ببسط سيطرتها على كامل الأراضي العراقيّة. وكشف عن نقاش ما زال يدور بين المسؤولين في واشنطن حول المنتصر الحقيقي في الاشتباكات التي دارت بين أنصار الزعيم مقتضى الصدر والجيشين العراقيّ والأميركيّ. لكنّه في المقابل نقل عن بعض المسؤولين قولهم بأنّهم متفائلون من كون المالكي بات يتصرّف كزعيم وطنيّ وليس كزعيم شيعيّ. هذا الأمر سيسهّل برأيهم جهود الأميركيّين الآيلة إلى استقطاب القوى السنيّة المناهضة لهم، في الوقت الذي تنجح العشائر السنيّة في احتواء تأثير تنظيم القاعدة، وفي وقت يحرز فيه العراقيّون تقدّمًا لناحية توزيع عائدات النفط بين الحكومة المركزيّة والمناطق. هذا التقدّم، بحسب رأي واشنطن، لا يرضي الإيرانيّين. بناءً على ذلك، أشار ستراوس إلى حيرةٍ تطال المسؤولين الأميركيّين إزاء ما يجب القيام به تجاه إيران، فتدخّلها المتزايد في العراق واستمرارها رغم قرارات مجلس الأمن بتطوير برنامجها النوويّ يشكلان أبرز مشكلتين تواجههما الإدارة الأميركيّة حاليًّا، والخيار العسكريّ تجاهها مستبعد.

أمّا بالنسبة للأولويّة التي يكتسبها الملفّ العراقيّ، فهي تعود، حسب ستراوس، إلى كونه هو المكان الذي يموت فيه الأميركيّون والذي يوظّفون فيه مليارات الدولارات، وهو لذلك يختلف عن أيّ مكانٍ آخر في العالم. وأكّد ستراوس أن لا انسحابًا يلوح في الأفق وليس بناء أكبر وأكلف سفارة أميركيّة في العالم في بغداد إلا تأكيدًا على ذلك.

هذا التركيز المطلق على العراق يعود بالنسبة لستراوس إلى إدراك إدارة بوش بأنّ جهودها في لبنان لا تؤدّي المرتجى منها، وإلى حاجتها الى قصّة نجاح عراقيّة تعوّض هذا الركود والتراجع في لبنان. إلا أنّه أشار في المقابل إلى استمرار التزام الإدارة الأميركيّة بدعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وفي هذا الصدد كان قد زار مساعد وزيرة الخارجيّة ديفيد ولش لبنان لتأكيد هذا الدعم، كما وفتحت الإدارة أبوابها لعدد وافر من السياسيّين الموالين للحكومة، وهي لا تزال تعوّل على نجاح المحكمة الدوليّة التي ستنظر في عمليّة اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبنانيّ الأسبق رفيق الحريري.

أيضًا على صعيد السياسة تجاه لبنان، نقل ستراوس عن مسؤول في الخارجيّة الأميركيّة قوله إنّ الفرنسيّين لا يبدون اليوم الحماسة المطلوبة لدعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، إذ يحبّذون رؤية توازن في القوّة بين الحكومة والمعارضة. كما سجّل ستراوس تمايزًا في المواقف بين الإدارة الأميركيّة والحكومة الفرنسيّة الجديدة بقيادة الرئيس نيكولا ساركوزي، الأكثر تحفّظًا من سلفه الرئيس جاك شيراك بالتدخّل في لبنان
.
فالأخير كان له تأثير شخصيّ فاعل في مجريات الأمور في لبنان والمنطقة، يمارسه خاصّةً من خلال علاقاته الوثيقة برئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. وكشف ستراوس من جهة أخرى عن إعادة نظر يقوم بها السعوديّون، إثر قول السفير السعودي السابق في واشنطن لمسؤولين أميركيّين أنّ حكومته استنفدت جميع وسائل التأثير على الأداء السوريّ في لبنان، ممّا حمل المسؤولين الأميركيّين إلى التشاؤم من النجاح في الملفّ اللبنانيّ.

كلّ هذه المعطيات تؤشّر حسب ستراوس إلى انحسار في الآفاق والأهداف لدى إدارة بوش، سيقابله تظهير لأيّ تحرّك سياسيّ في المنطقة على أنّه إنجاز، بدءًا بتخلّي ليبيا عن برنامجها النوويّ ومرورًا برحيل القوّات السوريّة عن لبنان. وسيبقى إخراج سوريا من لبنان، بحسب ستراوس أيضًا، الإنجاز الأكبر في نظر الإدارة الأميركيّة، ولن يطمح الأميركيّون إلى أبعد منه في المدى المنظور
.
من هنا، أكّد ستراوس أنّ التخطيط السياسيّ في العهد الجديد سيعتمد، كما في العهود السابقة، المدى القصير، يومًا بيوم أو أسبوعًا بأسبوع كحدّ أقصى، لأنّ أيّام التخطيط الطويل الأمد إلى جانب التعاطي اليوميّ مع الأحداث السياسيّة ولّت مع وزير الخارجيّة الأسبق هنري كيسينجر. مردّ ذلك، حسب ستراوس، إلى كون الولايات المتّحدة محاطة بكندا من الشمال والمكسيك من الجنوب والمحيطات من الشرق والغرب، ممّا يشكّل ارتياحًا للأميركيّين. وحذّر ستراوس اللبنانيّين من الإفراط في الاعتماد على الولايات المتّحدة. وأعطى مثلاً تاريخيًّا على نصيحة تلقّاها هنيبعل من والده، يحذّره فيها من مصادقة روما، فانطلق منها للقول بأنّ الأميركيّين ليسوا أفضل من يمكن الاعتماد عليهم، بكلّ بساطة لأن لا شيء يضطرّهم للعب هذا الدور.

وأخيرًا تناول ستراوس في حديثه السياسة النوويّة الأميركيّة في المنطقة، وكشفت أنّ الرئيس الأميركيّ لن يلعب دور المروّج للصناعة النوويّة الأميركيّة في زيارته القادمة إلى السعوديّة، على غرار ما قام به نظيره الفرنسيّ نيكولا ساركوزي، بل أنّ النجاح النوويّ الذي يتوخّاه البيت الأبيض يتمثّل بما تحقق مع نظام الرئيس الليبيّ معمّر القذافي، الذي نجح الأميركيّون بإقناعه بالتخلي عن برنامجه النوويّ، والذي تتعامل معه الإدارة الحاليّة على أساس "مذنبٌ مرّة لا يعني مذنبٌ إلى الأبد".