معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الاميركية
PrintEmail This Page
محاضرة لكارتر في في »قاعة عصام فارس« بالجامعة الأميركية
12 كانون الأول 2008
علا التصفيق أكثر من مرة خلال المحاضرة التي ألقاها أمس الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، في »قاعة عصام فارس« بالجامعة الأميركية في بيروت. لكن الحضور، الذي ضم بضع مئات من الطلاب والأكاديميين والصحافيين المحليين والأجانب والمهتمين، ضم كفوفه لبرهة أطول في »محطتين«: عندما وصف جدار الفصل الإسرائيلي »بالجريمة الواجب على المجتمع الدولي تصحيحها«، وعندما أدلى بتعريف بسيط وواضح لـ»الأبارتيد« (الفصل العنصري).. ذلك المصطلح القوي الذي جرّ عليه حملة استنكار عنيفة في إسرائيل والولايات المتحدة (لا سيما في دوائر منظمة »إيباك«) منذ أن ظهر على غلاف كتابه، قبل حوالى عامين، وهو بعنوان: »فلسطين: السلام لا الأبارتيد«.
 
فقد اعتبر كارتر أن معنى الكلمة محدد، لا يحتمل التأويل: »إنه ما يحدث عندما يعيش شعبان في أرض واحدة، منفصلين، وأحدهما يهيمن على الآخر«.

هذا، إذاً، جمهور يأنس لشخصية أميركية تفهم وتتفهم طبيعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، لا سيما حين تعطي الفلسطينيين حقّهم في أرضهم المحتلة بعد العام ،١٩٦٧ وحقّهم في وجود ذي طبيعة تحترم إنسانيتهم وتاريخهم في هذه الأرض، وحقهم في انتزاع اعتراف واضح بالظلم الذي يتعرضون له. وفي المقابل، هذا متحدث مستعد لقول ذلك كله، عن قناعة بل وبالممارسة السياسية (والمدنية والأكاديمية)، مع التأكيد على ضرورة أن يقبل مستمعوه في هذه القاعة، كما في مكاتب الرؤساء العرب، بأن »لإسرائيل الحق في الوجود، وللإسرائيليين الحق بعيش آمن إلى جانب دولة فلسطينية جارة، وضمن محيطهم«. هذه العبارة الأخيرة لم تستصدر التصفيق بل الإنصات (أم الصمت؟) باهتمام.

بيغن والسادات و»ندم عرفات«
روى حامل جائزة نوبل للسلام، أمس، بدعوة من »معهد عصام فارس للدراسات والسياسة العامة والشؤون الدولية« والجامعة الأميركية في بيروت، أكثر مما حاضر تحت عنوان »ثلاثون عاماً على كامب ديفيد: رسالة إلى العالم العربي وإسرائيل واللجنة الرباعية«. واللقاء معه، الذي افتتح سلسلة من الندوات ستعقد تباعاً برعاية بيل وسالي هامبريخت تحت عنوان »صنّاع سلام مميزون«، كان أشبه بلمحة شفهية عن مذكراته، وعن عهده الرئاسي (١٩٧٧ـ ١٩٨١) الذي شهد اتفاق كامب ديفيد العام (١٩٧٨) كأحد الإنجازات، والاستيلاء على السفارة الأميركية في إيران واحتجاز رهائن بداخلها (١٩٧٩) كإحدى الأزمات.

روى كارتر كيف اضطر إلى إبقاء الرئيسين مناحيم بيغن وأنور السادات في غرفتين منفصلتين طوال عشرة أيام، من أصل ١٣ يوماً في منتجع كامب ديفيد، وهو يقضي الوقت متنقلاً بينهما بعدما تبين له أنهما »لن يتجاوزا الماضي الأليم« إذا ما جالسهما معاً. روى كيف وقّع لبيغن »أوتوغرافاً« على صورة تذكارية، توجّه فيه إلى أحفاد الأخير، واحداً واحداً بالاسم، في محاولة ليقول له »إنهم لن يعيشوا بسلام إذا لم تتكلل هذه المفاوضات باتفاق«، وكيف تحايل بيغن بعد »هذه الحادثة الدامعة« على القَسَم الذي كان قد قطعه بعدم تفكيك أي مستوطنة إسرائيلية، بأن جعل الكنيست يتخذ القرار عوضاً عنه. وروى كيف أن الملك حسين لم يشارك في كامب ديفيد بسبب ضغوطات مورست عليه، وأنه التقى الرئيس الراحل حافظ الأسد في جنيف لأن الأخير أخبره أنه »لم ولن يزور الولايات المتحدة في حياته، وتبين أن هذا صحيح«، وأن معظم الرؤساء والقادة العرب »أخبروه سرّاً بدعمهم للمفاوضات، ولو أنهم كانوا يعارضونها في العلن«. وروى كيف قال له الرئيس الراحل ياسر عرفات ذات مرة إنه نادم على »أسوأ غلطة اقترفها في حياته«، أي امتناعه عن دعم اتفاقية كامب ديفيد، لأنها كانت ـكما قال ـ »ستؤمن لشعبه حكماً ذاتياً وانسحاباً إسرائيلياً فعلياً من أراضيه« الخ... وقد عاد كارتر إلى هذه النقطة ليقول إنه، في وقت من الأوقات، كانت ٢٢ دولة عربية، و٣٠ دولة إسلامية من بينها إيران في عهد الرئيس خاتمي، على استعداد لإنشاء »علاقات طبيعية« مع إسرائيل شرط أن تنفذ القرارات الدولية، »لكن المشكلة هي في المقاتلين من المستوطنين والذين يؤمنون بأن عهد (النبي) إبراهيم مع قومه يتيح لهم الأرض كلها«.
مستقبل أوباما..

لا ماضي إدارته
وإذا كانت »الرواية« قد تسيّدت حديث كارتر، فإن ذلك لا يعني أنه لم يعلن مواقف أيضاً: أعلن أنه لا فرصة للسلام في الشرق الأوسط إذا لم تشارك الولايات المتحدة بجدية في صنعه، مركزاً على تفاؤله بعهد الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما في هذا السياق، وأن الكثير يعتمد على »مسلك الرئيس الأميركي في مقاربة هذه القضية«. وهنا كان حريصاً على أن يضيف بأنه »ليس مهماً ماذا فعل موظفو الإدارة الأميركية المقبلة في الماضي (في إشارة إلى الشخصيات التي أعلن أوباما عن اختيارها لمشاركته الإدارة الجديدة، والمعروفة بقربها من إسرائيل)، لكن المهم هو ماذا سيفعل الرئيس نفسه في المستقبل، ولو أنه ليس سهلاً التصدي لكل الضغوطات«. وأخبر كارتر جمهوره في »قاعة عصام فارس« أنه اتصل شخصياً بأوباما، بعد ساعات على إلقاء الأخير كلمة في »إيباك«، ليبدي له »خيبة أمله« من فحوى هذه الكلمة، »فعاد أوباما وتحدث إلى »سي إن إن« ليوضح بعض التباسات خطابه«. ولم يفوّت الرئيس الأسبق فرصة تمرير لومه للرئيسين بيل كلينتون وجورج دبليو بوش على »عدم تذكّرهم القيام بمبادرة عملية إزاء صراعات الشرق الأوسط إلا في أواخر عهديهما«، مستنكراً، في الوقت عينه، »تفويض التمثيل« الذي أعطته »الرباعية الدولية« (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، والولايات المتحدة) لأميركا، لأن الثلاثة الباقين ـ في رأيه ـ يجب أن يعودوا إلى دورهم الفاعل فيها. في حين بدا كارتر »متأكداً، وبحسب استطلاعات الرأي في إسرائيل، من أن معظم الرأي العام الإسرائيلي ميال إلى معادلة الأرض مقابل السلام«.
أعلن كارتر أيضاً، ورداً على سؤال حول السبب الذي دفع ـ في رأيه ـ بكتلة حزب الله النيابية إلى رفض مقابلته، أنه »لم يأت إلى هنا ليستجدي أحداً، ولا يهمه أن يعرف السبب، فلو قابلوني كنت سأسعد كثيراً بذلك، لكن رفضهم لا يعني لي شيئاً، لقد أتيت إلى لبنان وكلي أمل بمقابلة كل الأطراف، ولأعرض خدمات »مركز كارتر« في مجال مراقبة العملية الانتخابية العتيدة، تماماً كما فعل المركز في أكثر من ٧٠ دولة حول العالم«. وفي سياق لبنان آخر قال إنه »متفائل بالانسجام الدبلوماسي الراهن بين سوريا ولبنان، على أمل استكماله بترسيم الحدود بين البلدين«. ولم ينس كارتر الإعلان، لجمهوره اللبناني، عن صدور كتاب جديد له بعنوان »يمكننا استحضار السلام إلى الأرض المقدسة«، في كانون الثاني المقبل، والذي يوضح فيه أن »نعم، ثمة خطة قابلة للنجاح« في تحقيق هذا السلام.

طبريا و»حل الطبيعة«
أما عن المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، برعاية تركية، فقال كارتر إن »عقدة بحيرة طبريا حلّتها ـ إلى حد ما ـ عناصر الطبيعة، إذ أدى انخفاض منسوب المياه في البحيرة، إثر استخدامها في الري، إلى الكشف عن أراض جديدة قد تتيح لإسرائيل حرية حركة لم تكن تملكها في السابق، وهذا عامل قد يدفع بإمكانية التسوية إلى الأمام. لكن يبقى عائق مهم، وهو لا شعبية الانسحاب من الجولان في دوائر الرأي العام الإسرائيلي الذي قد يفضل الانسحاب من الضفة الغربية على ترك الجولان.. ومع ذلك أنا أرى فرصة حقيقية لاتفاق«. وقد لفت كارتر إلى أنه، عندما التقى الرئيس بشار الأسد في نيسان الماضي، قال له الأخير إنه لا يرى أفقاً لهذه المفاوضات إذا لم تنخرط فيها الولايات المتحدة بشكل كامل.
من استمع إلى جيمي كارتر بالأمس تيقن بشأنه، في ما تيقن، أنه مناهض شرس لجدار الفصل الإسرائيلي »الذي أساء

شارون تفسير تطبيقه كفكرة خرج بها رابين وكانت تنحصر في حدود أراضي ما قبل ٦٧«. وأنه من دعاة دولة فلسطينية، إلى جانب دولة إسرائيلية، وليس من محبذي فكرة »دولة واحدة، من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، بسيطرة يهودية، وبعيش مشترك يهودي ومسيحي وإسلامي، أولاً بسبب المخاوف الإسرائيلية من سيطرة غير اليهوديين ـ مع الوقت ـ على قرار هذه الدولة، على اعتبار أنهم الأكثر عدداً ويفترض أنهم سيمتلكون حقوقاً وأصواتاً متساوية ضمن نظام ديموقراطي. وفي الوقت عينه بسبب مخاوفه (كارتر) من أن يؤدي حرمان غير اليهوديين، في هذه الحالة، من المساواة في المواطنية، إلى هدر ركن أساسي من حقوق الإنسان«.
من استمع إلى جيمي كارتر بالأمس لن يجد صعوبة في الاستنتاج: هو متحمس لأوباما. وهو متحمس أكثر ليشهد، في حياته، سلاماً إسرائيلياً ـ فلسطينياً »سينسحب حتماً استقراراً على المنطقة بأسرها«.