ثمة قول مأثور، منسوب الى جورج كليمنصو، رئيس وزراء فرنسا في أواخر الحرب العالمية الاولى، الملقب بـ "النمر"، مفاده : "إذا كنت تنوي دفن قضية ما، تحيلها الى لجنة". وقد إختصرنا هذه المقولة بالعربية بالمثل الشائع: ان اللجان مقبرة المشاريع ..
يضيف كليمنصو، متهكماً على عمل لجان التحقيق، بأنه من اجل ان تكون اللجنة فاعلة ومنتجة ، ينبغي ان لا يزيد عدد اعضائها عن الثلاثة، شرط ان يتغيب منهما اثنان!
إستهليتُ مداخلتي بالتذكير بهذين القولين كي أبادر الى التأكيد، لأني كنت شاهداً على ذلك، بأنّ دولة الرئيس عصام فارس في تجربته مع اللجان التي ترأسها، كذَّب القولين معاً.
فلا اللجان الوزارية التي ترأسها والتي تجاوز عددها الستين كانت مقابر للمشاريع، بل إنّ العديد منها انتج مشاريع قوانين ممَّيزة، او تمخَّض عن توصيات سهَّلت عمل الحكومة، ولا عمل هذه اللجان اقتصر على عضو واحد، بل ان بعض اللجان كان يضم اكثر من ثلث مجلس الوزراء، بحيث يصحُّ وصفها بأنها كانت بمثابة مجالس وزارية مصغَّرة.
وقد تسنَّى لي ان اشارك الرئيس فارس ، خلال السنوات الاربع الاخيرة من حكومات الرئيس رفيق الحريري، بين العامين 2000 و 2004 ، في عمل حوالي 40 لجنة كانت تعقد اجتماعاتها في مكاتبه الخاصة في مبني السوفيل. أذكر الجو الذي كان يضفيه على الجلسات: مزيج من الجدية في البحث ومن الحرص – عندما يشتدُّ النقاش بين وزيرين او اكثر – على تدوير الزوايا والتوفيق بين المواقف في محاولة دائمة منه للتوصل الى حلول تحظى بإجماع الاعضاء.
ان حجم اللجان الوزارية، وتعدد موضوعاتها وتنوعها، فضلاً عن التداخل في عضوية العديد من اللجان، كان يفترض وجود تنظيم لوجيستي بالغ الدقة سواء بالنسبة لتوجيه للدعوات ام لتحديد مواعيد الجلسات ام لتهيئة اوراق العمل والتقارير. ولعلَّ من اهم اسباب نجاح اللجان في القيام بالمهام المطلوبة منها هو توفُّر هذا التنظيم من خلال فريق عمل محترف ومن خلال مجموعة من الاختصاصيين في حقول مختلفة احاط الرئيس فارس نفسه بهم، وافاد اللجان من خبرتهم.
استكمالاً للصورة لا بد ان أذكر، كما يذكر زملائي، كيف كانت طاولة العمل المستديرة الكبيرة، عندما تمتد الجلسة الى ساعة متأخرة من بعد الظهر – وكثيراً ما كانت تمتد جلسات اللجان – كيف كانت الطاولة تتحول بلحظات الى مائدة سخيَّة، فتحلُّ الأطباق الشهيَّة التي تحمل لمسات ربَّة المنزل محل الاوراق والتقارير والملفات، فتجد نفسك مدعواً اليها، مشاركاً فيها مع كل الحاضرين، من دون تكلُّف او تصنُّع او رسميات.
تتعذر الاحاطة في هذه المداخلة بكل ما انجزته اللجان الوزارية، لذلك ارتأيت ان اركِّز على عمل اثنتين منها : لجنة تعديل قانون الاستملاك ولجنة التنصت.
لعل المشروع الذي أقرَّته اللجنة الوزارية، برئاسة عصام فارس، المكلفَّة عام 2003 دراسة تعديل قانون الاستملاك، من اهم انجازات اللجان الوزارية على الاطلاق، بالنظر الى انه يتناول موضوع حق الملكية الذي نص الدستور على انه "في حمى القانون"، وانه لا يجوز نزع ملكية احد الا لأسباب المنفعة العامة وبعد التعويض عليه تعويضاً عادلاً.
ذلك انه تبين بالممارسة وجود ثغرات في قانون الاستملاك المعمول به، كما تبينَّت نواقص كان يقتضي استكمالها.
كان أهم مصادر الشكوى من القانون ان مراسيم التخطيط من اجل شق الطرقات وانشاء الحدائق والساحات العامة تبقى سارية المفعول الى ما لا نهاية ودون تحديد مدة قصوى لها. فترتب على ذلك ان مئات مراسيم التخطيط صدرت، ووضعت اشارتها على صحائف آلاف العقارات، وان بعضها يعود الى عشـرات السـنين – ما ادى عملياً الى حرمان المالكين من حق التصرف بملكهم دون تقاضي أي تعويض، وذلك خلافاً لأحكام الدستور.
من مصادر الشكوى ايضاً، ان حق الادارة في اقتطاع ربع مساحة العقار المصاب بالتخطيط دون تعويض لأن شق الطرقات يحسِّن الأقسام الباقية من العقار، ان هذا الحق يطبَّق ايضاً على العقارات المقابلة للأوتوسترادات المقفلة، حيث من الواضح ان الاقسام الباقية من هذه العقارات لا يصيبها أي تحسين في القيمة، بل بالعكس فإن قيمتها تتدنى لأنها تُطلُّ على اوتوستراد مقفل.
وقد أقرت اللجنة مشروعاً عالج هذين الأمرين فحدد ، من جهة، مدة سريان مراسيم التخطيط بعشر سنوات قابلة للتمديد مرة واحدة فقط لمدة ثلاث سنوات على الاكثر. والزم الادارة، من جهة اخرى، بالتعويض كاملاً على العقارات المواجهة للأوتوستراد المقفل. كما سرّع المشروع وسهَّل عملية قبض التعويضات التي بات احتسابها يتم وفق طريقة اكثر عدالة وأكثر انصافاً. وفي 25 تشرين الاول 2003 أحالت الحكومة هذه التعديلات بعد إقرارها الى مجلس النواب.
وبعد نقاش طويل في اللجان النيابية، أقر مجلس النواب التعديلات المقترحة، تقريباً كما هي، وأصبحت منذ أواخر العام 2006 جزءاً من قانون الاستملاك.
أما موضوع تنظيم التنصت الاداري على المخابرات، فقد كان من المواضيع التي أثارت الكثير من الجدل والنقاش.
في أواخر العام 1999، وبعد مخاضٍ طويل ، صدر القانون (رقم 140) المتعلق بصون الحق بسرية المخابرات، وقد نص في مطلعه على ان التخابر بأية وسيلة من الوسائل هو في حمى القانون، وانه لا يخضع لأي نوع من انواع المراقبة او الافشاء الا في الحالات التي ينص عليها القانون، وحسب الاصول التي يحددها.
سبق صدور هذا القانون حدثان اذكرهما للتدليل على مدى تفشي ظاهرة التنصت على المخابرات، بما فيها مخابرات كبار المسؤولين. الاول، يوم تخلِّي الرئيس رفيق الحريري عن مقعده كرئيس للحكومة في مجلس النواب عام 1997 وجلس في مقاعد النواب، قائلاً انه لن يُجيب على الاسئلة المتعلقة بالتنصت لأنه ممَّن يتم التنصت عليهم. ثم في العام 1999 ، تصريح الرئيس نبيه بري، خلال ترؤسه اللجان المشتركة، ان هناك تنصتاً سياسياً، وهو مسؤول عن كلامه – تنصت على النواب والوزراء، وربما على الرؤساء ايضاً.
في هذه الأجواء، صدر القانون رقم 140 في 27 تشرين الاول 1999 الا ان تطبيقه كان يفترض صدور مراسيم تطبيقية عن مجلس الوزراء – ما اقتضى تأليف لجنة في اوائل العام 2001 برئاسة عصام فارس، ضمت عشرة وزراء.
وقد استغرق عمل هذه اللجنة اكثر من سنتين تم خلالها التوافق على بعض المراسيم وبقي الخلاف قائماً على المرسوم المتعلق بتحديد اصول الاعتراض الاداري على المخابرات، والمكان الذي يتم فيه اعتراض المخابرات وتسجيلها.
ذلك ان فريقاً من اعضاء اللجنة، وكنت واحداً منهم، تمسَّك بأن يكون اعتراض المخابرات وتسجيلها في مركز تحكُّم واحد في المبنى التابع لوزارة الاتصالات، وتحديداً في رأس النبع في بيروت، بحيث يُمكن ضبط التجاوزات والمخالفات – في حال وجودها. في حين رأى وزير الاتصالات في حينه، ومعه بعض المسؤولين الأمنيين، ان يكون اعتراض المخابرات في مراكز عدة، بما فيها عند الاقتضاء، مراكز هاتفية متنقلة.
ولم تُفلح مساعي الرئيس عصام فارس ودبلوماسيته في تقريب وجهات النظر في هذا الملف الدقيق والحساس الذي يلامس كل اللبنانيين دون استثناء ، اذ انه يفترض التوفيق بين الحريات الفردية وحرمة المخابرات من جهة، وضرورات الامن والسلامة العامة من جهة اخرى، فاضطر الى رفع الامر الى مجلس الوزراء مع المشروعين من اجل اتخاذ القرار المناسب.
الا ان مجلس الوزراء لم يتمكَّن من البت في الموضوع بسبب التجاذبات الحادة التي كانت قائمة يومئذ، فقرر تأجيل البحث في تقرير اللجنة الى أجل غير مسمَّى. وبقيت الامور معلَّقة الى العام 2005 حين تولى الاستاذ مروان حماده مسؤولية وزارة الاتصالات، فصدرت المراسيم التطبيقية لقانون التنصت في اول تشرين الاول 2005، وقضى احدها بأن تُحصر مهمة اعتراض وتسجيل المخابرات في مراكز التحكُّم في مراكز المحافظات التابعة لوزارة الاتصالات، وذلك بصورة مؤقتة، الى ان تُنجز عملية تركيب وتشغيل الاجهزة التقنية في مركز تحكُّم واحد في المبنى المركزي لوزارة الاتصالات في بيروت.
وقد ترك المرسوم لوزير الاتصالات، بقرار منه، امر تحديد تاريخ توقف مراكز التحكُّم في المحافظات ومباشرة العمل في مركز التحكُّم المركزي كمركز وحيد لإعتراض المخابرات وتسجيلها.
ماذا حصل بعد ذلك؟
كل ما استطيع قوله انه – بعد حوالي ثلاث سنوات، وتحديداً خلال جلسات الثقة بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تألفت بعد لقاء الدوحة عام 2008، فوجئت في مجلس النواب بما ورد (بالحرف الواحد) في بيان الحكومة الوزاري بأنه :
" من اجل حماية حقوق المواطنين لجهة صون سرية التخابر عملاً بالقانون 140 ، فإن الحكومة ستعمد الى اصدار المراسيم التطبيقية التي تؤمِّن الاطر التشريعية الضرورية .."
أذكر بأني ، في مناقشتي للبيان الوزاري، اعربت عن دهشتي لما سمعت وقلت انه ما دامت الحكومة تجهل ان المراسيم التطبيقية قد صدرت، فمن حقنا ان نسأل عما اذا كان هناك اليوم اعتراض على المخابرات الهاتفية، الثابتة وسواها، يتم وفقاً للأصول المحددة في هذه المراسيم؟
وبالنظر الى ان وزيري الداخلية والدفاع هما المرجعان الوحيدان اللذان يحق لهما، بموافقة رئيس الحكومة، اتخاذ القرار بإجازة التنصت، فقد سألت عن عدد القرارات المتخذة من الوزيرين منذ صدور المراسيم التطبيقية.
وبقيت هذه الأسئلة من دون جواب
في الآونة الاخيرة، ضجَّت الصحافة وسائر وسائل الإعلام بالمعلومات التي كشفها ادوارد سنودن عن مراقبة الولايات المتحدة وتنصت اجهزتها المخابراتية على المكالمات الهاتفية والاتصالات الالكترونية في العالم.
وقد ثبت ان هذه العمليات جارية على قدم وساق منذ العام 2006، بمعدل تجميع عشرات ملايين المعلومات من العالم أجمع في اليوم الواحد. وان الغضب الذي اثاره انكشاف هذه الفضيحة في أوروبا لم يكن مردُّه مبدأ تجميع المعلومات التي تعني الافراد وتتعلق بخصوصياتهم، بل لأنه تبيَّن ان التجسس الاميركي لم يكن يقتصر على الأخصام والأعداء، بل كان يتناول أيضاً حلفاء اميركا والمسؤولين في الاتحاد الاوروبي ومكاتب الاتحاد وهيئاته. أما الاستخبارات الاوروبية، سواء في فرنسا أم في بريطانيا أم في المانيا، فقد تبين انها لم تكن مقصِّرة في هذا المجال، وانها ليس فقط تقوم على نطاق أضيق بعمليات مماثلة، بل انها كانت وما تزال تتعاون مع اقرانها في الولايات المتحدة تسهيلاً لمهامهم.
ان هذه الانحرافات التي تُمعن فيها دول تُجاهر بحرصها على الحريات الفردية، بحجة مكافحة الارهاب ومتابعة تحركات الارهابيين، ينبغي – في رأيي – ان تزيدنا تمسكاً بالمعادلة التي توصلت اليها لجنة التنصت الوزارية وأقرَّها مجلس النواب، والتي توفِّق بين حرمة المخابرات وخصوصياتها وبين مقتضيات الحفاظ على الامن والسلامة العامة.
كلمة أخيرة. ان منصب نائب رئيس الحكومة لا ذكر له لا في الدستور ولا في المرسوم الذي صدر بعد الطائف عام 1992 لتنظيم أعمال مجلس الوزراء. الا ان معظم الحكومات التي تألفت منذ الإستقلال درجت على تعيين نائب لرئيس الحكومة كان دوماً من طائفة الروم الأرثوذكس . وقد استمر هذا العرف ثابتاً في كل الحكومات التي تألفت بعد اتفاق الطائف.
وبالنظر الى ان نائب رئيس الحكومة كان في أغلب الأحيان مكلفاً، في الوقت ذاته، بحقيبة وزارية هامة – كالداخلية والعدل والدفاع الوطني، فإن صلاحيات منصب نائب الرئيس وأماكن تواجده مع معاونيه لم تُطرح بالحاح الا عندما اصبح المنصب مجرداً من اية حقيبة، كما كان الحال بالنسبة للرئيس عصام فارس.
إلا ان الرئيس فارس أدرك دقة هذه الامور وما تثيره من تعقيدات لارتباطها بالتوازنات الطائفية التي يقوم عليها النظام في لبنان، فتولى معالجتها بنفسه وبوسائله الخاصة. وهكذا أصبحت مكاتبه التي توسَّعت بشكل ملحوظ لتستوعب المعاونين وفريق العمل ونشاط اللجان، أصبحت كخلية نحل تعجُّ بالعاملين، يتوافد اليها الوزراء بحكم عضويتهم في اللجان الوزارية، كما يتوافد الإعلاميون سعياً وراء آخر اخبار العمل الحكومي.وسوف يبقى ان الرئيس عصام فارس حقق رقماً قياسياً في تاريخ لبنان، القديم والمعاصر، بعدد اللجان الوزارية – المنتجة والفاعلة – التي ترأسها