مركز عصام فارس للشؤون اللبنانيّة
PrintEmail This Page
كلمة سعادة النائب مروان حماده خلال ندوة "عصام فارس واللجان الوزارية"
25 تموز 2013

أهذه جمهورية وهل هي لبنانية؟ وهل في المشهد الحالي حتمية تاريخية؟ صدقوا أو لا تصدقوا الجمهورية اللبنانية لم تكن دائماً وعلى مدى العهود والحكومات والوصايات والميول، جمهورية فاشلة. قد يكون الانطباع هكذا اليوم لدى جمهور اليوم، في ضوء ما وصلنا إليه اليوم.

الحقيقة غير ذلك: ففي بحر الانقسامات اللبنانية الذي لم يهدأ وفي ظل التجاذبات التي لم تتوقف وفي قمة الضغوطات التي لم تنقطع، أقام شخص جزيرةً من الجدّ والعمل والقرار عزلها عما كان يدور حوله وحولنا. أضاء في عتمة الخلافات نوراً وحفر له ولنا ثغرات في جدار النفور القائم بين الرئاسات وكأنه يخرج من نظام الترويكا السائد آنذاك قطعة من التعددية الحقة في واحة من الديمقراطية الحقيقية.
 

الشخص هو عصام فارس. الواحة هي مكتبه في الصوفيل. الزمان عهد الرئيس إميل لحود، والإطار حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري. تخيلوا أيها الأصدقاء المسرح، تذكروا الممثلين، احضروا الجمهور وتابعوا المشهد: الوضع السياسي على توتره ولكن من دون عنف، الاجتهادات الاقتصادية على حرارتها، ولكن من دون انهيار.

هكذا بدأت قصتي مع دولة نائب رئيس الحكومة عصام فارس، أنا الوزير العابر للعهود والحقائب منذ أول الثمانينات، الملوّن سياسياً، المنتمي برلمانياً، المتحالف مناطقياً، الثائر والهادئ في آن ضمن حكومات لم تكن تنقصها حدة النقاشات ولا تجاذب المواقف والآراء.
 

مع كل ذلك، اكتشفت بعد حرب أهلية بفصولها الداخلية والخارجية، وبعد اتفاقات ومواثيق لمّت الشمل دون أن تجمعه، وأرست أسساً للإصلاح دون أن تحققه، أنّ قلةً من الرجال يمكنهم في موقع المسؤولية أن يحيوا ويديروا ويبرمجوا أعمالاً تأسيسية في مجالات شتى دون أن تسود أعمالهم وجلساتهم فلسفة المحاصصة ونفسية الانتقام وروحية الحقد والكيدية.
 

هكذا على مدى سنوات، من سنة 2000 سنة التحرير من الاحتلال الإسرائيلي إلى سنة 2005، سنة التخلص من الوصاية السورية عبر عهد الرئيس إميل لحود وعبرت حكومات الرئيس رفيق الحريري أعاصير المنطقة وعواصف الداخل بفضل ابتكار فريد نسجه عصام فارس اسمه اللجان الوزارية المختصة، وأحاطها بدراية خاصة وأدارها بكفاءة ونفخ فيها روح المودة والحكمة والموضوعية، كما ظللتها هلا عصام فارس بذوقها الرفيع وحنانها العائلي. فجأة ما كان يتفجر في قاعة مجلس الوزراء اهتدى إلى مسار هادئ وبناء وكأنّ الأوركسترا المسفونية اللبنانية المتوترة يتهذب إيقاعها ويتحسن أداؤها وترتقي موسيقاها مع القائد والفرقة التي تُحال إليهم أصعب القطعات وأدق الأدوار.
 

عصام فارس، تعرّفت إليه داخل وخارج الحكومات. جمعتنا مناخات عائلية قبل أن تحملنا الأقدار إلى غيرها من اللقاءات.

لكني تيقنت الشخص وأدركت الشخصية خلال تلك الساعات الطويلة التي كنا نقضيها في الصوفيل، منكبين مع زملاء لنا، كلّ من انتماء مختلف، كرجل واحد على أكثر الملفات مصيريةً وخلافية. السر في ذلك منهجية العمل، الاعتماد على الأرقام الدقيقة، الاحتكام الدائم إلى القانون، الاستماع المستمر إلى الخبراء والحرص على ارتقاء الخدمة العامة إلى خدمة حقيقية للعموم. بقي الهدف، أياً كانت الظروف، إحياء صدقية الدولة، وترسيخ العقلية المؤسسية، كما يتبين جلياً من الكتاب المرجع الموثق الذي وضعه الصديق العالم الهادئ مناف منصور بين أيدينا والذي لا ينقصنا لنعيش مرةً أخرى لحظاته العامرة إلا وجود أبو ميشال بيننا.

أيها الأصدقاء، منذ العام 1980 وأنا أتولى من عهد إلى آخر حقائب وزارية متنوعة، ومنذ 1980 وأنا أنضمّ تباعاً إلى لجان وزارية كانت توصف آنذاك، عن حقّ، بأنها مقبرة المشاريع. أما في لجان بدايات الألفية الثالثة، فقد تقمّصت المشاريع التي كانت، عند احتدام النقاش، خصوصاً بين الرئيسين لحود والحريري تحتضر قبل أن يُعهد إلينا إيجاد المخرج.
 

لم يكن المخرج عند عصام فارس ومعه مجرد حلّ مشكل على الطريقة المعهودة لبنانياً. فالرجل لم تعقّده ضبابية الصلاحيات، أوجدها وعمقها بالممارسة. لم تجفله الأبواب الموصدة عند مدخل السراي. جعل من الطابق الثالث في الصوفيل سرايا أخرى وخلية عمل مميزة.كنا كوزراء وبفعل تكليف اللجان تعميق الدرس، ووضع الحلول نلتقي هناك أكثر مما نقصد بعبدا أو نزور القصر الحكومي. 
 

المناخ الودي كان مؤاتياً، اللوجستية المكتبية متوفرة من الخبير المميز إلى الكاتبة القديرة، إلى ال catering العائلي الصادر من مطابخ برمانا برعاية العزيزة هلا التي كانت تؤمن لزوجها ربط العمل الصباحي وبالعمل المسائي عبر توفير راحة اللجان المتنوعة حيث كان يدير الواحدة تلو الأخرى، مرتين وثلاثة في اليوم الواحد.
 

فعلاً النقاش لم يكن يوماً للنقاش الجاف ولا الجلسة للتمييع الفارع ولا النتاج مساومة على الحق.

من جان لوي قرداحي وعاصم قانصوه إلى فارس بويز وغازي العريضي، من بهيج طباره وفؤاد السعد إلى نجيب ميقاتي في الأشغال وفؤاد السنيورة في المال ومروان حماده في الاقتصاد، من محمد عبد الحميد بيضون، فباسل فليحان وجورج افرام- رحمهما الله- إلى حاكم مصرف لبنان ورئيس مجلس الخدمة المدنية ورئيس مجلس الإنماء والإعمار وغيرهم وغيرهم لم يغب أحد عن موقعة صوفيل، المحلمة الدائمة وأسطورة الدولة كما حلمنا بها ولا نزال.
 

أما الملفات، فقد تناولت كل المواضيع في الأمن والخارجية والعدل والمال والبيئة والأشغال والنقل والصحة والشؤون الاجتماعية والتنمية الإدارية والاتصالات والثقافة وتوزعت على الإصلاح المالي والمصالحات القانونية وقرارات التحكيم طالت كل البنى من المطار إلى المسلخ إلى المخططات التوجيهية ومن النفايات الصلبة إلى إنشاء وتشغيل محطات التكرير. لم يغب موضوع وكأنّ الدولة حوّلت كامل شؤونها وشجونها وهمومها إلى من يجمع ولا يفرّق، إلى من يدرس ولا يؤجل، إلى من يهمل ولا يُمهل.هل كان عصام فارس يحمل عصا سحرية؟ طبعاً لا، فإن لم يكن من المنجمين لم يكن أيضاً من المبتدئين. ثقافة سياسية واقتصادية وإنسانية متجذرة في خبرة شخصية واسعة تتلازم مع سعي دائم لتجنيد وتحفيز خبرات الآخرين: مستمع، متدخل، مبادر، مُصلح. نعم مُصلح. لذا تدعوني المناسبة إلى نبذ خرافة طالما راودت بعض النفوس وتملّكتها، خرافة العداوة أو المنافسة النجومية بين رفيق الحريري وعصام فارس. بالطبع أنا لا أدعي التلازم الكامل بين رئيس الحكومة الغائب بشهادته وهو في عز عطائه ونائب رئيس الحكومة الغائب قسراً وهو في عز عطائه أيضاً. لكنني أجزم بأنّ تكاملاً ما كان ينظم كيمياء الرجلين المميزين في عطائهما الوطني والإنساني. كما كنا نرتاح عند اقتراح تشكيل لجنة وإطلاق لجنة وتفعيل لجنة. مجلس وزراء مصغرة كانت تشكّل الروافد المعطاءة للمجلس الأكبر في زمن كانت لمجالس الوزراء معنى وللوزراء قيمة وللمناصب رهجة.
 

رفيق الحريري غاب شهيداً ولن يعود رحمه الله.

أما عصام فارس، فالقرار له. وإذا اعترفنا بأنّ المشهد يائس والنفوس بائسة، فإنّ في ذلك سبب وطني وإنساني إضافي لعودة أيو ميشال والقيادات الوطنية الغائبة إلينا وإلى لبنان.