أولاً أود أن أشكر إدارة مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية على هذه الدعوة الكريمة لمناقشة إحدى أهم التجارب التي شهدناها لكنها بقيت خارج الضوء الإعلامي بعيدة عن روح الاستقطاب والمذهبية والغرائزية السائدة في البلد منذ أكثر من ثماني سنوات وهي تجربة الرئيس عصام فارس في عشر سنوات من السياسة اللبنانية وشؤون الدولة والحكم.
طبعاً يجب التركيز بدايةً على أنّ عصام فارس ظاهرة فريدة في السياسة اللبنانية خصوصاً في مرحلة ما بعد الطائف: تجرّد في أعلى مستوياته ونزاهة عالية لا يتحملها الصعيد السياسي المنغمس في لعبة المحاصصة والمغامرة بمصير البلد في صراعات النفوذ والأدوار.
جاء إلى السياسة وسط مجموعة كلها من الصناعة الإقليمية أو تغلب عليها القماشة الإقليمية بينما هو لم يكن بحاجة لصانعي الملوك الإقليميين. كان هو ملكاً بارتباطه بهموم المواطن وهاجس إنجاح مشروع بناء الدولة. كان عقله وهمه صناعة الدول وليس صناعة الملوك وإنصاف الآلهة. لذلك مع كل إمكاناته وخبرته، لم يضع نفسه كما فعل زملاؤه في الرئاسات والوزارات في مصاف أنصاف الآلهة فوق القانون والمحاسبة وبالتأكيد فوق الشعب وطموحاته. لم يعمل لموقع خاص ولا لبناء زعامة إقطاعية أو ميليشياوية، لم يقبل بقواعد مرحلة ما بعد الطائف وقرار المواجهة، ولكن بعيداً عن الضجيج والانفعال. قرّر العمل الهادئ والمثمر لإدخال قواعد جديدة وإحداث تطوير متدرج في بُنية الدولة أي في العمل السياسي والمؤسسات والإدارات.
لا يجب أن ننسى أنّ عصام فارس حطّ رحاله في البرلمان في أوج مرحلة ما سُمّي الإحباط المسيحي بكل ما حملته هذه المرحلة من أجواء انكفاء وتحريض وضياع البوصلة في مسار انحدار تطبيق اتفاق الطائف وانحدار مبادئ العيش المشترك التي رافقت هيمنة الأبعاد الإقليمية وسياسات النفوذ الإقليمية على الساحة الداخلية. هذه الهيمنة التي همشت أدواراً وفعت أدواراً أخرى، قدمت مجموعات وأشخاص على حساب مصالح وطنية وإصلاحات أساسية يحتاجها البلد.
لكنّ عصام فارس كان منطلقاً من مبدأ أساسي هو أن لا استسلام للأمر الواقع أي لا استسلام للإحباط ولا قبول بأن تكون الأزمة أكبر من المسؤولية السياسية، أو أن تكون السياسة أكبر من لبنان. الحرب ضد الأمر الواقع والإحباط خاضها على عدة جبهات وعدة مستويات وبالدرجة الأولى من خلال الإصرار على تفعيل عمل المؤسسات إذ لا يمكن قيام قرار وطني شامل وجامع بالاستناد إلى الأشخاص، إنما القرار يجب أن يكون يبد المؤسسات وهذه المؤسسات يجب تحريرها من الارتهان من المصالح الشخصية أو الرئاسية أو الفئوية.
شهد مرحلة شخصنة المؤسسات الدستورية ووضع اليد الفئوية على الإدارة ومؤسساتها وانتفض ضدها طارحاً برامج إصلاحية لتطوير هذه المؤسسات أكانت رئاسة الجمهورية أم مجلس النواب أم مجلس الوزراء. والأهم أنه كان يمتلك المصداقية العالية ولم يكن مطلقاً شعبوياً أو بائع أوهام أو مروّج شعارات فارغة من المضمون. أكاد أقول أنّ مصداقيته لا تنبع فقط من سلوكه الشبيه بسلوك فرسان أوروبا في إرهاصات عصر النهصة، إنما أيضاً لأنه الوحيد بين أقرانه أو من القلة التي نفذت فعلاً شعار أنه لا يريد شيئاً بل لديه أحلام لوطنه.
كل السياسيين الذين عايشهم عصام فارس بدأوا بشعارات أنهم لا يريدون شيئاً لأنفسهم وأنهم يريدون إصلاحات وتقدم، وانتهوا بأنهم يريدون كل شيئ لأنفسهم على حساب الدولة والإصلاحات ووصلوا إلى حدود الجريمة بأشكالها المتنوعة دفاعاً عن امتيازاتهم وعن مراكزهم. بينما أثبت هو من خلال العديد من النماذج والأمثلة أنّ طموحه كان إلى إنجازات يستحقها الشعب اللبناني بامتياز بعد معاناته من آثار الحرب الأهلية والدمار الذي أحدثته الميليشيات والعدوان الإسرائيلي المتكرر والذي كان يكمل تدمير مرافق البلد ونسيجه الإنساني.
والأهم أيضاً في أسلوب المواجهة الذي اعتمده دولة الرئيس هو أيضاً شيء بارز ومميز في السياسة اللبنانية بينما كانت الزعامات والرئاسات تحيط نفسها بالأزلام والمحاسيب وتعمل على ضرب مبدأ الكفاءة في المجتمع اللبناني ليحلّ محله الاستزلام والولاء، جاء دولته بفريق عمل لافت من أصحاب الخبرة والتجربة والمواهب. وكل من عايش تجربته أو اقترب منه، شعر بحضور هذا الفريق المميز وهذه المواهب التي لم يسخّرها لخدمته الشخصية ولا لصناعة صورته ونفوذه إنما لتستفيد منها مؤسسات الدولة وتكون في تصرف مشروع تقدم ورفاه المجتمع اللبناني.
لا يجب أن ننسى أو أن نتجاوز مسألة أنّ أصعب وأقسى ما واجهه عصام فارس وفريقه هو الصراع الحاد والأزمة العميقة بين نظام أمني صاعد يعتبر نفسه صاحب الحق والحقيقة الوحيد وبهذه الصفة يعمل على إلغاء وإقصاء كل الآخرين متسلحاً بكونه واجهة للوصاية الإقليمية والخادم الأمين لمصالحها، خصوصاً أنّ هذه الوصاية كانت في طور التحول من ولاية إلى ولاية ومن وال إلى وال جديد وتحتاج إلى أقصى درجات الولاء والإخلاص والتفاني في خدمتها، هذا من جهة. أما من الجهة الأخرى المقابلة، فكان مشروع الإعمار للرئيس الشهيد رفيق الحريري وكان هذا المشروع غبر قابل للاكتمال والتطور والإنجاز بدون وضع لبنان على الخريطة العربية والدولية أي اتباع سياسات لا تتحملها الوصاية لأنّ هذه السياسات تبدأ بتعميق الديمقراطية ولا تنتهي إلا باستقلالية القرار الوطني وإخراج المؤسسات من الارتهان. لا يمكن نجاح مشروع الإعمار بدون هذه الشروط وهذا ما أدركه دولة الرئيس عصام فارس وحدد دوره من خلاله وهو كان الدور الأصعب أو المشروع الأصعب. حاول من جهة لجم اندفاعة النظام الأمني في مساعيه الإلغائية والإقصائية وفي مساعيه إحلال دولة الأجهزة والتنصت بدلاً من دولة القانون والمؤسسات. ومن جهة ثانية، عمل بجهد كبير على رفع معايير المشروع الإعماري وهو فعلاً نجح إلى حد كبير في المهمتين. ونلحظ هذا النجاح في سياسات الانفتاح والحوار التي انتهجها وكان فعلياً نقطة الالتقاء والجمع الوطني الوحيدة بعيداً عن الاستقطاب بما كسبه من احترام ساعده على فرض اعتداله ورؤيته على الجميع. أما متابعة عمل اللجان الوزارية التي رأسها ونظم عملها وبلغت أكثر من سبعين لجنة، فيمكن التعلم منها التأكيد أنّ مساعيه كانت مع دعم المشروع الإعماري للرئيس الحريري إلى أقصى حد إنما مع رفع المعايير وإزالة الثغرات والفجوات وتوظيف هذا المشروع في خدمة الإنماء المتوازن والمناطق الأكثر حاجة والفئات الاجتماعية الأكثر حرماناً، كما وأنه من خلال اللجان أيضاً عمل على الحدّ من هيمنة العقلبة الأمنية ووضع اليد على الدولة والمرافق.
عندما لم ينجح عصام فارس في إيجاد حلّ حقيقي للصدام بين النظام الأمني والمشروع الإعماري وعنما رأى استشراس الوصاية وأدواتها بكل تلاوينهم في ضرب المؤسسات وهدم مقومات الدولة، وعندما انتهت هذه المرحلة المُشينة والمسيئة إلى لبنان باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري واغتيال آمال وطموحات كبيرة للبنان الرسالة معه، غادر عصام فارس لبنان وربما أراد أن يغادر السياسة اللبنانية أم أن لا يبقى على احتكاك مباشر مع هؤلاء السياسيين الذين قادوا البلاد طوال سنوات كما تُقاد سفينة الحمقى أي الالتهاء بالصغائر عن المشروع.
يجب أن نترك دولة الرئيس حيث الحديث عن تجربته يتسع للكثير ويجب أن نعود إلى الكتاب "عصام فارس واللجان الوزارية" الذي يلقي الضوء على جوانب مضيئة وهامة من هذه التجربة، ويؤكد على شيء أساسي وهو أنّ الصلاحيات ليست نصوص بل أدوار.
كل من يملك الخبرة والقدرة ويكرّس نفسه وجهده لأجل المساهمة الفعالة في تقدم قضيته الوطنية سيكون النجاح حليفه. حاول عصام فارس كما حاولنا معه فصل موضوع الصلاحيات عن الطوائف والمذاهب والغرائز وربما لم تسمح لنا ظروف المرحلة بالنجاح في هذا المشروع ولم تحصل نيابة رئاسة الحكومة على صلاحيات بالنصوص لكنّ دولته لم ينتظر الصلاحيات بل قام بأهم مغامرة من خلال اللجان وإنجازاته فيها. هذه المغامرة كانت تعويضاً عن عمل مجلس الوزراء الذي كان فضفاضاً وبلا خبرات تتنازعه الفئوية والمصالح الشخصية والمذهبية. كان مجلس الوزراء عبارة عن مجموعة إقطاعيات يغلب عليها الولاء الشخصي وقلة الكفاءة فكانت اللجان الوزارية محاولة جدية وناجحة لتقديم حلول ومشاريع وطنية تمثل مصلحة الدولة وترتكز على معايير علمية وعلى تجارب دول متقدمة عرفها وخبرها دولته مع فريقه.
هذا الكتاب هو رحلة مع هذه المغامرة بتفاصيل وأوجه جمعها المؤلف مناف منصور بدقة مثابرة العالم. تشعر أنه عاش هذه الرحلة ورافق صاحبها في كل مراحلها. أحيا مناف منصور لجاناً عملت طوال ساعات بحرفية عالية وكانت أو تكاد تكون أشباحاً أو ظلالاً ليست في بال أحد. إنه عمل مهم أحيا لي ذاكرتي هذه السنوات من العمل وأحيا معها الأمل بأنّ لبنان مهما تدهورت أوضاعه وتفككت أوصاله، فله رجال مثل عصام فارس تحميه.
والآن ماذا نستفيد من هذه التجربة والكتاب للمستقبل؟ هل نقبل أن تبقى طاقات لبنان وأعلامه في الخارج بينما الأزمة تنهش فينا وبدولتنا؟ إننا ندعو دولة الرئيس أن يكون رائداً معنا في توظيف تجربة اللجان بعمقها في أربع ورش وطنية حقيقية نحتاجها اليوم في أوج أزمتنا الوطنية والسياسية.
أولآً: الدور المسيحي في حماية لبنان ودولته. يستطيع صاحب التجربة أن يلعب دوراً مهماً في إعادة صياغة الدور المسيحي ورؤيته البعيدة المدى، والأهم الحفاظ على لبنان الرسالة والعيش المشترك، وفصل العيش المشترك عن الصراعات السياسية وصراعات النفوذ المذهبية والطائفية
ثانياً: وضع أُطر متعددة لاستيعاب الصراع الشيعي- السني في لبنان والمنطقة والذي يهدد بتفكيك لبنان كما سوريا والعراق. إننا نعرف أنّ عمق الأزمة إقليمي ولكن يمكن لنا تأسيس دوائر حوار على نسق اللجان الوزارية تتناول كل منها ملفاً من الملفات الأساسية لتحويله من مادة خلافية إلى مادة وفاقية وفق نفس المعايير التي أحدثها عصام فارس في اللجان
ثالثاً: لبنان يحتاج إلى ثورة في التشريع. يمكن بالتأكيد الاستفادة من تجربة اللجان الوزارية للقيام بإعادة صياغة لكل تشريع في لبنان خصوصاً بعد فشل مريع في تجربة المجلس الدستوري الذي وُلد ولادةً مشوهة بصلاحيات مشوهة ووصاية سياسية مذهبية مخيفة
قد يفكر البعض منا بشخص عصام فارس رئيساً لمجلس دستوري على مثاله يقود لبنان إلى تحديث جذري في تشريعاته، أو ربما الأكثر واقعية أن يكون عصام فارس نائباً لرئيس المجلس النيابي يقود ورشةً كبيرة في رئاسة دائمة للجان المشتركة لتحديث كل تشريعات لبنان، مشرفاً بذلك على ولادة جديدة لولايته انطلاقاً من وضع تشريعات لمحاسبة المسؤولين في كل المواقع والرئاسات عن الهدر والفساد أي وضع تشريعات أقوى من الطوائف، وإنهاء اعتداء الطوائف، وزعامات الطوائف على الدولة والمواطن.
رابعاً: تطوير اتفاق الطائف ووضع أسس البناء الوطني المستقبلي في عصر ثورات العولمة والشباب المندمج في عالم المعرفة والتقنيات ووسائل الاتصال والتواصل وثورتها المستمرة، لا نجد أولى من تجربة عصام فارس في إطلاق عملية جدية لتطوير هادئ للدستور ترتكز على مبدأ توسيع الحقوق ومبادئ المساواة والعدالة والتطبيق الشامل المتكامل لبنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المنصوص عنها في الدستور والتي تقبع قيد الإهمال منذ العام 1991 بينما الشباب اللبناني ينتقض ويثور مُطالباً بصيغ جديدة على مستوى آمالة وطموحاته
دور كبير مفتوح لعودتك دولة الرئيس وأنت الصلب في حبك للبنان ولشعبه وفقرائه بالأخص. كثير من اللبنانيين يعلّقون الآمال على تجربتك المميزة والناجحة وعلى إنجازاتك التي لا يريدون لها أن تتوارى أو تتراجع.
وأنا شخصياً أقول للبنانيين عموماً وللمسيحيين خصوصاً أن يتعلقوا بعصام فارس وتجربته وإمكاناته وأن لا ينجرّوا وراء الغرائز وعمليات التخويف والتوهيم خصوصاً أن يكونوا كالبعض في الطائفة الشيعية نسوا إمامهم موسى الصدر جسدياً ووطنياً واتبعوا مصالح لا تحمي لبنان ولا تحمي وطنية هؤلاء.
الكلمة الأخيرة لمناف منصور مع حفظ الألقاب: تهانيّ القلبية لك بهذا العمل وبما سبقه.
إنني أحسدك أخوياً لأنه قضيت عشر سنوات من عمرك برفقة عصام فارس وتجربة رائعة مميزة تستحقّ أن تُسمّى رحلة عمر فيها سعادة الإنجاز وفيها الدور الوطني. اما نحن، فقضينا هذه السنوات العشر في حياة سياسية تحولت إلى حلبة صراع سيطر فيها الكواسر على الحمائم وقام فيها السلاح مكان الدستور، والإقطاعية المذهبية محل الهوية الوطنية. نحن نحتاج لإنقاذ، وكتابك خطوة على الطريق.